بقلم: رجل الأعمال خلف الحبتور
يمارس صندوق النقد الدولي، منذ سنوات، ضغوطاً على دول الخليج لتطبيق الضريبة على القيمة المضافة على السلع والخدمات الاستهلاكية، والهدف ظاهرياً هو تعزيز الموازنات المالية. ويبدو أن دول مجلس التعاون الخليجي أخذت بتلك النصيحة مع العلم بأن العديد منها، بما في ذلك الكويت وسلطنة عمان، أرجأ تطبيقها في خطوةٍ حكيمة برأيي.
بدأت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة العمل بالضريبة على القيمة المضافة في الأول من يناير 2018، وكانت النتيجة ارتفاع التضخم وشعور السكان بوطأة الأمر على أوضاعهم المالية وفقاً لاستطلاعات الرأي. وقد عبّرتُ علناً وصراحة، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، عن اعتراضي على فرض ضريبة بنسبة 5 في المئة على القيمة المضافة، ووجّهتُ رسالة إلى السلطات أعرض فيها للمخاوف التي تساورني مناشداً المعنيين بإلحاح الرجوع عن تطبيق الضريبة.
لم تحقق الضريبة على القيمة المضافة نجاحاً يُذكَر، ومع ذلك يعكف صندوق النقد الدولي الآن على التسويق لتطبيق ضرائب جديدة لتشمل الضريبة على الدخل الشخصي والضرائب على الشركات وشراء العقارات. يا لها من فكرة سيئة جداً! أوجّه نداءً قوياً إلى الإمارات وسائر بلدان مجلس التعاون الخليجي كي لا تنخدع بهذه النصيحة المروّعة الصادرة عن مؤسستَين عالميتين تبيَّنَ أنهما تتسبّبان بأضرار واسعة. لا يمكن الوثوق بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
لقد وجّهتُ تحذيرات عبر موقع “تويتر” من مخاطر الإصغاء إلى التوصيات الصادرة عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حول الضرائب، وهي توصيات عشوائية تتبع نمطاً واحداً بدلاً من تكييفها مع الظروف الاقتصادية لكل بلد. من الضروري تماماً أن تحافظ الدول العربية على سيادتها الاقتصادية عبر استشارة خبرائها الماليين. فكل بلد يعرف ما هي الحلول الأنجع له، وعليه أن يُداوي نفسه بنفسه.
لقد وقعت مصر على مضض في قبضة صندوق النقد الدولي عندما كان ظهرها إلى الحائط عام 2016. ففيما كانت القاهرة تسعى جاهدة للنهوض من الصدمات الاقتصادية التي تعرضت لها في أعقاب ثورتَين متتاليتين، وافقت على الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار، وبطبيعة الحال ترافقَ القرض مع شروط وقيود.
فقد أُرغِمت الدولة العربية التي تضم العدد الأكبر من السكان على تعويم عملتها التي تراجعت قيمتها بنسبة تفوق النصف، ما تسبّب بارتفاع شديد في التضخم. كما أنها اضطُرَّت قسراً إلى رفع الدعم عن الوقود وغيره من السلع، الأمر الذي كان من الممكن أن يتسبب باندلاع شرارة الاضطرابات الشعبية، مثلما حصل في “انتفاضة الرغيف” عام 1977.
لكن على النقيض من فنزويلا والجزائر والسودان وفرنسا، تمكّنت مصر من الإفلات من رصاصة الاستياء الشعبي الشديد النقمة، ويلوح ضوءٌ في نهاية النفق. تُلحق الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي الأذى بالطبقات الوسطى في مصر، لكن أبناء هذه الطبقات أظهروا أنهم يتحلون بالصبر. تتحسّن قيمة العملة، وينحسر التضخم. ويسعى صندوق النقد الدولي جاهداً لتقديم قرض آخر إلى الحكومة المصرية لكنها رفضته وفق ما أُفيد.
احذروا مَن يتحيّن الفرصة لإغراق فنزويلا، هذه الدولة الغنية بالنفط، بالديون. ليس الأمر مفاجئاً. من المرتقب أن يعترف صندوق النقد الدولي بالرئيس الذي نصّبته إدارة ترامب، والذي يسعى إلى الحصول على السيولة من صندوق النقد الدولي لمنح جرعة زخم لحكومته غير المنتخَبة.
يجب النأي عن التعامل مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بسبب ارتباطهما الذي لا ينفصم مع السياسة الخارجية الأمريكية. تكشف الوقائع حقيقة الأمور وتفتح بصيرتنا على ما يجري.
يدرك الشيخ العماني الدكتور سعيد بن سالم الهادي، خفايا اللعبة. فهو يُشير إلى أن صندوق النقد الدولي يستهدف الاقتصادات النامية، لا سيما البلدان الغنية بالموارد التي ترفض الإذعان لواشنطن، بهدف تحويلها اقتصادات فاشلة. ويُعطي مثالاً على ذلك العراق، كما يتوقف عند الولايات الأمريكية الجنوبية التي أحكم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الخناق حولها، فدُفِعت اقتصاداتها نحو الانهيار.
جرى الترويج للاحتلال الأمريكي للعراق عبر تصويره بأنه يساهم في تحقيق الحرية والديمقراطية للعراقيين، لكن انظروا ماذا حلّ بهم. لقد استُخدِمت هذه المؤسسات المالية العالمية، أو بالأحرى الأمريكية، سلاحاً لنشر الفوضى وزعزعة الاستقرار، وأجرؤ على القول، نهب مقدّرات الدول.
فبعدما أقدم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية على إرغام البلدان على إلغاء ديون العراق، عمدت تلك المؤسسات إلى إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي في إطار عملية اشتملت على خصخصة الشركات المملوكة من الدولة واستقدام جهات أجنبية للتملّك في البلاد، ما أتاح لشركات أمريكية، مثل “هاليبورتون” و”بكتل” و”سواهما، تحقيق مكاسب طائلة فيما كان الأكثر فقراً يرزحون تحت وطأة الخفوضات الشديدة في الدعم الحكومي والرواتب.
قال مارك ويسبروت من مركز أبحاث السياسات الاقتصادية: “ليس صندوق النقد الدولي مؤسسة مستقلة فعلاً. لا أعتقد أن هناك أحداً في هذه البلاد يستطيع أن يقول لكم بالفم الملآن إن الصندوق المذكور غير خاضع لوزارة الخزانة الأمريكية”. هذا الرأي يعبّر عنه أيضاً معهد بروكينغز الذي أكّد أن الولايات المتحدة تنظر إلى جميع المؤسسات المتعددة الجنسيات، ومنها البنك الدولي، بأنها أدوات للسياسة الخارجية تُستخدَم لدعم الأهداف الأمريكية.
لقد اتّهم رئيس الإكوادور سابقاً، رافاييل كوريا، صندوق النقد الدولي بممارسة الابتزاز، وظهرت مزاعم غير مؤكّدة بأن خلفه عقدَ صفقة مقايضة لتسليم مؤسس موقع “ويكيليكس”، جوليان أسانج، الذي التجأ إلى سفارة الإكوادور في لندن، مقابل الحصول على رزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي.
عام 2009، عمدت الأرجنتين والبرازيل وباراغواي والأوروغواي والإكوادور وبوليفيا وفنزويلا، مدفوعةً بامتعاضها الشديد من تدخلات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلى إنشاء صندوقها النقدي الخاص “بانكوسور” لكنه مُني للأسف بالإخفاق، ولم يتمكّن من الانطلاق والعمل بسبب تدنّي رسملته. ربما حان الوقت كي تبادر دول الخليج وحلفاؤها العرب إلى النظر في إنشاء مؤسسة مالية مماثلة تُقدّم قروضاً غير مشروطة بواسطة تمويل من البلدان الأكثر ثراء.
ترزح أفريقيا تحت عبء ديون طائلة تجعلها رهينة صناديق نقدية خاضعة لسيطرة الولايات المتحدة. لقد فرضت الشروط الصارمة التي يطبّقها صندوق النقد الدولي تقشفاً قاسياً وشديداً على مواطني اليونان طوال سنوات، فأصبحوا في حالة من البؤس والعوز ما دفع بكثر منهم إلى الإقدام على الانتحار أو التخلي عن أولادهم الذين عهدوا بهم إلى رعاية الدولة لأنهم لم يعودوا قادرين على تأمين القوت اليومي لهم.
أما الأردن الذي يعاني اقتصاده من التداعيات الناجمة عن وجود ملايين اللاجئين على أراضيه، فقد وافق على الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي عام 2016 بعدما اشتُرِط على السلطات الأردنية بذل جهود لتحفيز الاقتصاد وخفض الدين العام. كما فرض الاتفاق على عمان إقرار قانون ضريبي مثير للجدل ما أفضى إلى اندلاع احتجاجات وتنظيم إضرابات. ويتفاوض الأردن راهناً مع صندوق النقد الدولي حول برنامج إنمائي جديد. فلماذا لا تبادر بعض الدول العربية الأكثر ثراء إلى تقديم يد المساعدة بنفسها إلى الأردن!
للتعمق أكثر حول هذا الموضوع، أنصحكم بقراءة كتاب جون بركينز الذي هو أقرب إلى السيرة الذاتية بعنوان “القاتل الاقتصادي المحترف” (Economic Hitman)، والمستلهَم من المسيرة المهنية للكاتب. كانت مهمة بركينز تقوم على إقناع قادة البلدان الفقيرة بالموافقة على أخذ قروض لتمويل البنى التحتية شرط التعاقد مع شركات أمريكية لتنفيذ مشاريع البناء. يقول إن القروض كانت بمثابة طعمٍ لتلك البلدان كي تقع تحت تأثير النفوذ السياسي الأمريكي وتسمح للشركات الأمريكية بالوصول إلى مواردها الطبيعية.
ويُشير إلى أن “القتلة الاقتصاديين المحترفين نجحوا في إنشاء أمبراطورية عالمية حقيقية، وهي أمبراطورية سرّية بصورة أساسية”، مضيفاً: “نُحدّد بلداناً وشركات تمتلك موارد على غرار النفط، ونتدبّر قروضاً ضخمة لتلك البلدان من البنك الدولي أو إحدى المؤسسات الشقيقة له. لكن المال لا يصل فعلياً إلى تلك البلدان، بل يصل إلى شركاتنا لتنفيذ مشاريع البنى التحتية التي لا تعود بالفائدة سوى على حفنة قليلة جداً من الأثرياء، في حين أن الأكثرية لا تحقق فائدة منها”.
تابع بركينز: “وهكذا يرزحون تحت وطأة ديون طائلة يعجزون عن سدادها، فنقول لهم في مرحلة معينة: لا يمكنكم تسديد ديونكم، بيعوا إذاً نفطكم بأسعار زهيدة إلى شركاتنا النفطية، وصوّتوا معنا في جلسة التصويت المقبلة في الأمم المتحدة. واسمحوا لنا ببناء قاعدة عسكرية… وفي حال لم يمتثلوا، نرسل عملاءنا لإسقاط قادتهم، وفي حال فشل هؤلاء في إسقاط قادتهم أو اغتيالهم كما حصل في العراق، نرسل الجيش”.
ليس جائزاً أن تقع البلدان العربية ضحية هذه المكائد بعد الآن وأن تُزَجّ في مواقف لا تُحمَد عقباها. يتعيّن على قادتنا أن يدققوا جيداً في الأنشطة التي تضطلع بها هذه المؤسسات المشبوهة والفاقدة للصدقية والتي هي بمثابة أدوات تُحرّكها واشنطن، على أمل أن تجد الباب موصداً في وجهها عندما تقرعه في المرة المقبلة لإسداء نصيحة ما أو تقديم المليارات.