بقلم: حافظ النيفر
مشهدان يعكسان حجم البؤس الذي يعيشه كثير من الأطفال في مجتمعنا، نتيجة جهل الوالدين وقلًة وعيهم، مقابل ممهًدات النجاح التًي يجدها أطفال آخرون في مجتمعاتهم الواعية.
قد لا يكون المشهدان شاملين لكلً الأطفال في مجتمعنا وكلً الأطفال في المجتمعات الراقية، فالاستثناءات عديدة هنا وهناك، لكن للأسف فالحالة الغالبة عندنا أنً أطفالنا بتونس لا يتلقًون تربية تجذًر فيهم الثقة بالنفس وتؤصًل عندهم الذكاء وحبً المعرفة.
المشهد الأوًل:
طفل أمريكيً ذو خمس سنوات يدخل الطائرة لأوًل مرًة في حياته، رفقة والديه في رحلة طويلة من نيويورك الى باريس، لم ينقطع عن استفسار والديه عن كلً تفاصيل اجراءات السفر منذ وصولهم المطار وحتًى امتطاء الطائرة، ووالداه يجيبانه بكلً هدوء ودقًة وكأنًهما يحاوران عالما لا يشقً له غبار.
جلس الطفل في المقعد المعدً له وسط والديه وعيناه تحدًقان في المضيًفة بلباسها الأنيق وفمها الباسم وهي تحكم اغلاق باب الطائرة استعدادا للإقلاع. لم يفوًت الطفل الفرصة، والتفت الى أمًه التًي كانت منشغلة بقراءة مؤلًف أدبيً لكاتب شهير، وسألها:
– مامي، هل تسقط بنا الطائرة لو تبقي تلك السيًدة الباب مفتوحا قليلا؟
– (مبتسمة) نعم يا حبيبي، لا بدً من احكام اغلاق الباب جيًدا والاً تعرًضنا الى الخطر، وعموما فتلك السيًدة متعوًدة على أداء عملها جيًدا كما يوجد بقمرة القيادة ما ينبًه طاقم الطائرة الى وجود عطب في الاغلاق لو حصل قبل أن تقلع الطائرة.
– وكيف سنتنفًس في الجوً يا مامي وكلً المنافذ مغلقة؟.
– لا تقلق يا عزيزي الطائرة مجهًزة بأجهزة تنقية الهواء داخلها ونشر الاكسيجين بكميًة تكفي كلً الكائنات داخل الطائرة ولكامل الفترة التي ستستغرقها الرحلة.
– مامي في تقديرك، ما الذي يمنع الطائرة من أن تسقط بنا في الجوً؟
ربًتت الأمً على رأس ابنها وقالت بحنان: الربً من فوقنا والعذراء ترعانا فنحن دائما في حمى ربًنا.
التفت الأب في هذه اللحظة وانبرى يشرح لابنه بأسلوب علميً بارع كيف تحافظ الطائرة على توازنها في الجوً ودور الذيل والجناحين في ذلك، مستعرضا مختلف التقنيات العلميًة المتًبعة لتوفير أكبر قدر من السلامة في الرحلة، وكان الطفل في الأثناء يستمع بانتباه ويطلق العنان لعقله الصغير كي يستوعب هذا التدفًق الغزير من المعلومات عليه، ثمً سأل أباه معاندا:
– لكن كلً ذلك لم يمنع يا أبي حصول حوادث للطائرات.
– نعم، لكن كلً حادث يستفيد منه الإنسان حينما يتمً اجراء تحقيقات علميًة دقيقة فيكتشف مسائل جديدة في عالم الطيران لم يكن منتبها اليها من قبل، فتصبح جزء من قواعد السلامة في الطيران وهكذا تنخفض الحوادث بصفة ملحوظة.
واصل الطفل من حين لآخر التحاور مع والديه بثقة وجرأة وكان يشعر دائما بأهميًة المسائل التي يفكًر فيها فيزداد ثقة بنفسه وشغفا بالعلم والمعرفة.
المشهد الثاني:
طفل تونسيً ذو ستً سنوات يجرً قدميه جرًا في محطًة الأرتال وأمًه تمسك بيده وتحثًه على الإسراع كي لا يفوتهما قطار الخطوط البعيدة الذي يستعدً للانطلاق.
كان الطفل يشعر بخوف مبهم من القطار، ربًما بسبب فيلم الحركة الذي شاهده قبل ليلتين مع أفراد عائلته بالرغم من أنًه موجًه لمن هم أكبر من اثنتي عشرة سنة، لم يستطع الطفل نسيان المشهد الفضيع للقطار وهو يخرج عن السكًة ويسقط من جسر عال معلًق في الهواء ويقبع حطاما في قاع النهر، ولم ينس الطفل وهو يصعد سلًم القطار أن يلقي نظرة على عجلات القطار المعدنيًة وكأنًه يريد أن يطمئنً إلى أنًها محكمة التثبيت فوق السكًة.
انحشر الطفل في المقعد والتصق بأمًه طلبا للدفء وطردا للهواجس، لكًنه لم ينجح في التخلًص من قلقه المبهم خاصًة بعد أن تحرًكت عجلات القطار وارتفعت سرعته وأصبح يطوي الأرض طيًا.
استجمع الطفل شجاعته وأراد أن يطفئ ظمأه بمعلومات مطمئنة قد يسمعها من أمًه، فالتفت إليها قائلا:
– ماما عندي سؤال.
– آش تحبً …. تكلًم!!!؟
– ماما هل يمكن للقطار أن يخرج عن السكًة وينقلب.
ما إن أتمً المسكين كلماته حتًى شعر بلطمة عنيفة على خدًه الناعم وأمًه تصيح عليه بصوت متجهًم:
– وووه !!! يا مكبوب السعد لاش ها الفال الأحرف … اللطف اللطف يا صاحب اللطف ما لقيت آش تستفايل لنا … اسكت وسكًر جلغتك.
ازداد انكماش الطفل في مقعده وهو يقاوم دموعا انحبست في مقلتيه، وبات المسكين نادما على سؤاله بعد أن اجتمع عليه ألم الخوف المبهم من القطار وألم الصفعة الحارًة التًي تلقًاها من أمًه، وواصل المسكين رحلته الطويلة خانسا خانعا لمجريات الأحداث.