وحين تضربك موجة تنسى صوتك وترتحل في الفراغ.
يتغلل العصف، يضرب عميقا في أبعد نقطة من روحي، في أصغر نقطة من العصب الذي بت أسمع نبضه متواصلا لا يهدأ ما أن أغمض عينيّ.
هكذا حملتني موجة منذ عام ٢٠١٩ تداخل فيها كل ما حصل في بيروت عصفا إلى داخل جسدي، رجلاي تركضان على الكورنيش يداي مشغولتان برفع ساعة الكهرباء وحمل غالون البنزين، نفسي مشغول بالتقاط هواء فاسد يعبأ رئتاي المصابتين بالهلع، أصبح تقويس ظهورنا هو الموحد لأجسادنا، عيناي تبتسمان بمودة لصاحب موتر الكهرباء، كيف لا والعلاقة معه باتت المحرك لكل يومياتي. تغربت عما كنته قبل هذا التاريخ. ولأن الجسد خائن، قذفني هو الآخر إلى لعبته المفضلة، قال أنا حدودك، لا تأخذ طرف خلايا دماغك، لا تنحاز، لأني سوف أهزمك وأهزمه كما هزمت كثر أحببتهم من قبل، فما تعيشه يعجز العقل عن تحليله مهما حاول.
أنا الجسد، أنا ربك الأعلى، أنا الفاني الذي يخفيك من الوجود بغمضة عين. لا تستمع لعقلك الذي يغويك بأن الواقع كارثي فيحرمك من هورمونات السعادة لنا ولك، أنا هنا، كلما رحلت في موجة اكتئاب سأسرّع نبضات قلبك، لتنتهي أمام باب الطوارئ، نحن أعضاء جمعية الجسد، سنقول للشهيق والزفير أن يتوقفا حتى تشعر بأن عليك الركض كل صباح لتستعيد نفسك. كلما حاول عقلك أن يضبط هرموناته على وقع انهيار هورمونات المدينة سنهب هبة رجل واحد، سنأمر الصوت ان يختفي كي لا تختنق بكلماتك البكاءة، نعلم انه هذا الخبيث المسمى دماغ ينشط في الليل، هذا الخائن الذي يستغل حاجتنا للراحة فيبدأ باللعب وحرماننا من الناقلات العصبية الفرحة، ومن النوم والراحة.
بكل بساطة كلما زاد الانهيار كلما زاد عجزي، قلّت قدرت استيعابي على احتمال كل ما مررنا به وأصبحت مشغولا بي. للدقة أصبح ايقاعي متناغم مع إيقاع البلد. بهذه الهشاشة المطلقة مشيت. إذا زادت حالة الهلع لأي سبب كان من ازمة بنزين او دولار، زاد هلعي وضيق تنفسي والحرب ما بين جسدي وخلايا الدماغ. أما إذا هدأ الوضع وأصبح هناك نوع من التأقلم، هدأ إيقاعي ونوبات هلعي. كل فعل بات فعلًا فرديا، مشغول أنا كما آخرين كثر من حولي بمحاربة شح ضخ هرمونات السعادة والسيطرة على شهيقي وزفيري.
طبعا كان الانهيار المالي أول الصدمات. قضيت ساعات أنظر مطولا إلى دفتر حساب توفيري البنكي، أتذكر صديق حاول مرارا أن يقنعني بفتح حساب توفير للتقاعد. كان مهووس وخائف من فكرة أن لا أمان ولا ضمان لشيخوختنا نحن، العاملون في القطاع الحر، أخذ يوفر من أمواله شهريا يضعهم في حساب توفير لبنك أقنعه بأن شيخوخته بأمان معه.
خسر أمواله والأموال التي وفرها وبت أراقبه وقد كبر فجأة عشرين سنة، لقد سرّعوا من شيخوخته. انظر إلى دفتر حسابي البنكي في الليرة اللبنانية، احسب قيمة الأموال الباقية وأقرر أن أحولها إلى عمل فني بعنوان “عم قص مصاري قص”، أن تكون ورقة الألف والخمسة آلاف والعشرة والعشرين، أي تلك العملات التي فقدت قيمتها الشرائية هي العمل، ومجموعها هو نفس المبلغ الذي تم حجزه وسرقته بشكل او باخر من قبل البنك. أردت إهداء هذا العمل إلى هذا الصديق الذي فقد نصف عمره.
دائرة فارغة، حتى سئمنا أنفسنا وصورتنا واكتئابا، في لحظة ما أحسست أني أفكر برقبتي من رقبتي، أفكر من صوتي علني أوقف هذه الحرب التي تسمى قلق، اكتئاب، هلع، جزع. وكردّة فعل للنجاة أو في محاولة لحل نزاع هذه الحرب الدائرة ما بين أفواج جمعية أعضاء الجسد، وجموع خلايا الدماغ العصبي، أصبح تركيزي في مكان آخر، كوسيلة لتشتيت الانتباه.
هكذا وجدتني أتعلق بحدث أو خبر ومتابعة قصص اجعلها موضع تركيزي وتسليتي، أصبحت مهوسا بتجميع كل الأخبار التي تدعو للغرابة والجنون في البلد: مذيعة تشم رائحة الغاز من حقول النفط في عرض البحر كما ادعت، ظهور نبي جديد في المدينة، صاحب موتر يقطع الكهرباء عن مركز للشرطة لعدم قدرتهم على دفع الفاتورة، السفارة الأمريكية تستعيد ١٦ كلبا بوليسيا من الشرطة بسبب الجوع الشديد وسوء التغذية. جمعت كل هذه الأخبار الواقعية، اخبار حقيقية وليست من نسج الخيال، أن تستيقظ مثلا في الصباح على خبر من وزير التربية يريد أن يضع سبيكارات على سيارات تجوب الشوارع تعطي دروس للأطفال القابعين في بيوتهم في زمن الكوفيد، كل ما سمعت خبر من هذا النوع كلما زادت حاجتي لحبة كزاناكس. من هنا كانت فكرة الفيديو بعنوان: “شو قلبك عم يوجعك؟” أو “القاع”، في هذا العمل، نص فردي عن كافة المحاولات التي مارستها كي أبقى سويًا في ظل الانهيار وهوسي بكيفية عمل هذه الهرمونات التي تعطيك السعادة، الاكتفاء والرضى، مثل الدوبامين والاكسيتوسين، هوس بطرق زيادتها في الجسم مقابل او على وقع ازدياد العبث والجنون في البلد ووقاحة وجنون الميديا واخبارها.
بت أتابع وأنتظر أن تصادفني أحداث عبثية يومية، مثل سعيي إلى إيجاد غالون بنزين لتعبئة سيارتي وقت أزمة انقطاعه، اذهب إلى الضاحية، إلى السوق السوداء، أجد شاب ابتاع منه غالون بنزين مختوم، هذا ما كان يكرره هذا الشاب، أي أن هذا الغالون أصلي على حد تعبيره، كم غريبة هذه الجملة، هذا الحدث. ذهبت معه لكي أرى كيف يختم غالون، كيف يملؤه ومن ثم يقدمه لزبائنه كأنه خارج من شركة سوق سوداء للتو. غالون ماء معبأ بالبنزين، في بلد لا ماء فيه تصل للمنازل ولا بنزين. ثم اتابع هوسي بالأشكال والقياسات المختلفة لنصف قنينة ماء مع أنبوب مربوط بها، تحولت إلى أداة لسكب البنزين من الغالون إلى السيارة. تكاد لا تخلو سيارة من هذه الأداة اليدوية.
.
بعد وضع أعمال هذا المعرض انتبهت أن خطها الزمني الذي يتأرجح ما بين بداية الانتفاضة، الانهيار المستمر، وعمل يحاول أن يحاور عمل فني سابق للفنان مروان رشماوي من قبل هذا الواقع الجديد. أجزاء من بيروت ٢٠١٩…عمل يخرج من بيروت كاوتشوك او يحاوره أو يبتر منه في محاولة للقطع الزمني مع مرحلة سابقة؟
صادفت منير صبرا وأنا خارج من صف اليوغا وذلك بعد تفجير مرفأ بيروت، يجب القول أن بعد هذا الانفجار دخلت المدينة في تروما جماعية، لا يلتقي اثنان إلا ويتحدثان عن هذه اللحظة وسرد قصصهن\هم الشخصية عنها. منير بعد بضع كلمات عابرة بيني وبينه، دخل مباشرة بالحديث عن هذه اللحظة بعد أن هنأني بالسلامة. بعد أن انتهى من سرد قصته، بدأ بعرض صور من هاتفه عن بيته المدمر والأبنية من حوله شارحا كيف هرب وماذا صادف من اهوال. صورة واحدة استرعت انتباهي، كانت صورة لقطعة كاوتشوك عليها خارطة ساحة النجمة والسراي الحكومي، صورة لجزء من عمل أعرفه جيدا. منير شرح لي ان هذه القطعة الموجودة في الصورة ما زالت في بيته، هو لا يعلم كيف حطت هنا، يقول أنها طارت من عزم الانفجار ودخلت إلى منزله كما دخل كثير من الزجاج وخشب من ابنية مجاورة إلى بيته المحطم. بعد أن أخبرته أنها جزء من عمل فني، تذكر منير أن في البناية الحديثة العملاقة التي بجانبه يسكن جامع أعمال فنية مشهور يدعى هنري سلوم وإذا كانت قطعة الكاوتشوك هذه هي جزء من عمل فني فلا شك أنها تعود له. قمنا أنا ومنير بزيارة مسيو هنري سلوم حاملين معنا هذه القطعة، كان مسيو هنري قد اشترى عمل” بيروت كاوتشوك” وخصص له غرفة كبيرة في طابق مخصص فقط للأعمال التي يشتريها ويجمعها. بيروت كاوتشوك تمزقت وطارت من عصف الانفجار ولم يُعثر منها إلا على أجزاء صغيرة هنا وهناك. كانت القطعة التي حملناها هي أكبر قطعة ناجية، رفض هنري استلامها، قال انه مهاجر وسوف يحمل معه فقط بضع لوحات ناجية.
إن هذه القصة هي من نسج الخيال، خيال لا يرتقي إلى قوة الواقع، إذ إن الحقيقة الوحيدة في هذه القصة هو الانفجار، الانفجار هو الواقع الذي مزق وسبب قطع للسياق الزمني والفني في ومع هذه المدينة.
أن تمشي في شوارع بيروت بعد ٢٠١٩ إلى الآن، لا يتراءى لك سوى الانحلال، التفكك، العصف، الاضمحلال، والانفراط. يحيلنا هذا العمل الى مقارنة مع بيروت كاوتشوك للفنان مروان رشماوي، لكن هنا المناطق على هذه الخريطة غير واضحة المعالم، مفككة ومتحللة، كما أرى بيروت الآن.
المعرض هذا هو مجموعة أعمال تعكس الأحوال الراهنة بجنونها وعبثيتها القاتلة.