صدر أخيراً كتاب “مرايا التحولات الرقمية والتمثلات الذهنية للذكاء الاصطناعي” للباحث والأكاديمي اللبناني غسان مراد (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، الذي يعالج ضمن أربعة فصول بعض القضايا المتعلقة بالتطور الرقمي من منظور عدة مجالات متداخلة في ما بينها، ويطرح بعض المواضيع من زوايا مختلفة تتعلق بالتحول الرقمي ومستلزماته في السياق العربي بشكل خاص، والسياق العالمي بشكل عام، لعل أهمها عالم “ميتافيرس”، بكل ما يطرحه من هواجس، وما يرافقه من تغيرات افتراضية وواقعية.
لمَ يحمل “اسم المرايا الرقمية”؟ السبب بسيط: “هذه المرايا في التحول الرقمي تعكس ما يحصل وما قد يحصل لاحقاً، ليس من وجهة نظر أحادية الرؤية الثابتة للملاحظ، بل رؤية الملاحظ من زوايا مختلفة، من خلال محاولة إبراز الصورة التي ستتبين لنا بالمرآة كتمثيل للمتغير”.
الأهداف الرئيسية لهذا الكتاب تتمثل بتقديم أفضل فهم لماهية الثورة الرقمية وما أحدثته من تغيير في معادلة القيم، والمواقف التي اتخذت إزاء وسائل التواصل نتيجة هذه الثورة، ويتناول التهديد الذي يراه في التغيرات الناتجة من الرقمنة، والشعور الجديد الذي تثيره في البشر، ودور “الميتافيرس” اقتصادياً واجتماعياً وافتراضياً، وأهمية تدريب مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، نظراً إلى “أنَ التفاعل سيتغير نسبياً معه، وسيُصبح حسياً بشكلٍ أكبر”.
يطرح الكتاب رؤى نقدية تجاه الثورة الرقمية، إذ يصف بصورة معينة الخطر الذي يكمن في التحرك نحو “ثقافة أحادية” رقمية، وبالتالي نحو إفقار أساسي، فالرغبة المتهورة في تقديم الرقمية كمرجع إدراكي ووضعها في طليعة نطاقنا الوجودي والسباق المستمر نحو كل شيء رقمي، في رأي مراد، هي خطوات التغيير الجذري الذي يلقي بظلاله على إنسانية الإنسان وهُويته. وما يمنعنا من الاستسلام الأعمى لكل ما هو رقمي ولكل الشكوك المقلقة التي تولدت عن قوة أجهزة الكمبيوتر هو الوعي، يضيف.
ويقدم رؤية تصف ما يتغير في تجربتنا في العالم، وتصف الإمكانات الهائلة للإثراء التي تنطوي عليها من خلال عرض بعض الابتكارات المهمة. يرى مراد أنَّ التحول الرقمي لا يرتبط بالضرورة بالتكنولوجيا الرقمية، بل يرتبط بحقيقة أن التكنولوجيا الرقمية تمكن الناس من حل مشكلاتهم التقليدية باستخدام الحلول الرقمية وتفضيل الحلول الحديثة على الحلول القديمة. بمعنى آخر، لا يمكن إيجاد حلول لتساؤلات جديدة من خلال مفاهيم قديمة، بحسب قوله.
يأتي هذا الكتاب جزءاً من كُل شامل ومُتشعب، وهو ثالث مؤلفات مراد في هذا المجال (“الإنسانيات الرقمية” 2018 و”دهاء شبكات التواصل الاجتماعي وخبايا الذكاء الاصطناعي” 2014)، وهو يعالج إشكاليات متعلقة باللغة والدماغ، وعلاقة اللغة العربية بالرياضيات، وكيفية الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته في حوسبة هذه اللغة.
مراد، الباحث المتخصص في حوسبة اللغة والإعلام الرقمي يثير أسئلة إشكالية في كتابه: كيف يُمكن أن تستفيد اللّغة العربيّة من تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ؟ وكيف نَستخدم خوارزميّات الذكاء الاصطناعي في حَوْسَبة اللّغة العربيّة (أو اللّسانيّات الحاسوبيّة) التي تُعَدّ أولى العلوم الجديدة التي انبثقت من هذا التداخل البَيْني (بين علوم اللّغة والمعلوماتيّة)؟
يفرد مراد مساحة وافية للإجابة عن هذه الأسئلة، وعن علاقة اللغة بالدماغ وتطور النشاط اللغوي وحساب اللغة، ولكنه في المقابل يترك المزيد من الأسئلة المفتوحة أمام القارئ، ربما تكون الإجابة عنها واضحة خلال الأيام المقبلة، وربما السنوات، عن شبكات التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي السيبراني: ماذا سنفعل بهذا العالم الافتراضي؟ كيف سنستخدمه؟ وماذا سيفعل بنا؟ وكيف سيستخدمنا ويخدمنا في آن؟