بقلم – سراب حسان غانم:
جولة ماتعة في رحاب مجموعة قصصيّة بعنوان “كأنني كنت أحلُم”، للشاعر والقاص السوري رأفت حكمت، والحائزة على المركز الأول بمسابقة الشارقة للإبداع العربي في دورتها الرابعة والعشرين …
انطلاقاً من أن المزيّة الأساسية في فنّ القصة القصيرة تكمن في تطويع الخيال لمزجه بالواقع بصورة إبداعية، نرى الكاتب من خلال هذه المجموعة يشرّع للقارئ بحرفية إبداعية أبواب خيال واسعة، ليحلِّق بين رموزها بعيداً نحو عالم خياليٍّ ساحر، ثم يلامس بمشاهدَ واقعية وإحساس عالٍ زاوية من زوايا حياته …
بين وعيٍ لواقع، وخيال يطرق آخر باب للذاكرة، نرى الراوي يمدُّ حبلاً متيناً يصل الأحداث بشخوصها وإطارها الزماني والمكاني بروح القارئ ليجد الأخير نفسه بطلاً من أبطال الحكاية.
بأسلوب موجز مكثّف، تعمّد الكاتب في هيكلة البناء القصصي وإكسائه على التناص بما احتوته ذاكرتنا الجمعية التراكمية من أفكار وملامحَ وإشارات، لاسيّما “بعد الحرب”.
لذا نرى هذه المجموعة في أغلب مضمونها تتحدث عن الموت.
الموت، الذي كان سابقاً أي ما قبل الحرب، (يأخذ شكلاً على هيئة فم مفتوح وعينين مقلوبتين للداخل) إضافة إلى تفاصيل أخرى تتعلق بطقوس الدفن، وهذا ما نجده في قصة مفتاح معدني.
أما في الحاضر، فقد أصبح يأتي بأشكال وهيئات مختلفة، فإما أن يكون رحيلاً كاملاً إثر قصف (يمنع الاسمنت مهما كان مسلحاً أن يردَّ عن عائلة موتاً كبيراً)، أو رحيلاً جزئياً، بجسد مازال ينبض وروح تختنق من شدة الألم، وهنا يكون الموت طعناً يومياً في روح جسد واحد، فنراه في قصة خياط الموت يأتي على هيئة عجوز يحيك قماش الكفن، ومرة أخرى يكون على موعد مع الضحية التي تتجهز للقائه بتفاصيل كثيرة أحدها داخل صندوق في غرفة الجدة.
وللموت هيئة اللجوء في رحلة طويلة يخيم على ملامحها صمتٌ مطبق.
وأشدُّ أشكاله إيلاماً، عندما يبلغ حدَّ بيع أعضاء لم تعد صالحة للحياة في سوق للخردة.
السّمة الثانية الغالبة على هذه المجموعة أيضاً هي الخوف، وذاك الصراع الداخلي الذي يصوره لنا الكاتب بعبقرية خيالية ورمزيّة في الوصف، بنسيج قصصي يرسم أمامنا لوحة مفصلّة بإيجازها، معقدة ببساطتها، حاملاً العقدة بين يديه، تاركاً للقارئ الحل، فمرة نجده السّجّان والسّجين داخل زنزانة واحدة في خرج ولم أعد، وتارة نرى ذلك الخوف في نزاع وتحدٍّ حقيقي بينه وبين جسدٍ يحاول التخلص منه في قصة دبوس، وقد يأتي على شكل زورق على وجه الماء يحترق، بسلطة القوي وتحكّمه وقمعه بسدِّ الأفواه الناطقة بالحق.
واللافت للانتباه أيضاً في هذه المجموعة الغنيّة، قدرة الكاتب على توظيف رمزيات تخصّ عالم الحيوان وصفاته وإسقاطها في قالب أدبي مدهش على تفاصيل حياتية نجدها في قصة شَبَك سبعة وغيرها ….
فضلاً عن استنطاق النبات كما في سيرة ذاتية لحبة قمح.
وهناك قصص أخرى توجه سهامها مباشرة نحو هدف بعيد ودقيق، عند تلك البقعة المظلمة مسبّبة ألماً في الذاكرة حادّاً ليقول لنا الكاتب: “إننا لسنا سوى خلاصة تراكمات كثيرة، دُفنت في مقبرة الذاكرة، ولم تمت”.