بقلم: أ.د محمد عبدالرحيم سلطان العلماء
منذ أن أمر الله سبحانه وتعالى عبده وخليله إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم بالأذان للحج في قوله سبحانه: {وأذِّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍّ عميق}، وأصداءُ ذلك الصوت المَهيب الكريم تتجلجل في جنبات ذلك الوادي الجليل، ويصل صداها إلى الروح الإنسانية في جميع أصقاع الأرض، ويتوافد الناس راجلين وراكبين من كل حَدْبٍ وصَوْبٍ تلبية لهذا النداء الخالد الذي لا يزداد على مرور الأيام إلا قوة وصفاء وجاذبية، فمنذ تلك الآلاف الماضية من السنين وإلى يوم الناس هذا ما زال نداء مكة سارياً في القلوب، وما زالت مصابيحها المُشعّة بالنور تنادي الراغبين في زيارة المولى الكريم في بيته العتيق العظيم.
وللبيت العتيق مَهابةٌ وجلالة تأخذ بالقلب، وحين تلوح أنواره من بعيد يضطرب طائر الشوق في قفص الصدر ويُصفّق بجناحيه استعجالاً للوصول، وحين تكتحل العين بمرأى ذلك الجمال المَهيب تنخلع الروح الإنسانية من كل ما يُحيط بها من مظاهر العظمة والأُبّهة، وينسى العبد ما كان فيه من شواغل المُلك والرئاسة، ويكون أكبر همّه أن يدسّ رأسه بين رؤوس المساكين طلباً للرحمة، وتذلُّلاً للجناب الإلهي العظيم تماماً كما كان يفعل سليمان عليه السلام الذي آتاه الله تعالى من المُلْكِ ما لم يؤتِ أحداً من العالمين، ولكنه بتواضعه ورقّة قلبه كان يطوف على مساكين بني إسرائيل حتى إذا وجد حلقة من فقرائهم جلس إليهم ودسّ رأسه بين رؤوسهم وقال مُناجياً ربّه: (مسكينٌ جلس إلى مساكين).
في قلب هذه المعاني السامية، وبقلب مُفعم بالتواضع والتذلل على أعتاب الجلال الإلهي، نشر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، ومضةً رمضانية على حسابه في إنستغرام هي مجموعة أبيات تحكي قصة ذهابه إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، ومدّه يد التضرع لله سبحانه وتعالى، لإحياء معاني العبودية في النفس الإنسانية في أجواء هذا الشهر المبارك الفضيل.
ولصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد هوىً قديم في مكة، وهي مَهْوى فؤاده كلما حزبه أمر من أمور الحياة وداهمته شدّة من شدائدها، ولقد ذكر في سيرته الذاتية (قصتي) أنه كان حين يتمّ تكليفه بالمهام الثقيلة من مهام الدولة، كان يُهرع إلى بيت الله الحرام، ويمدّ يده طالباً من الله تعالى أن يمدّه بالعون، فليس غريباً أن تظل مكة هي مهوى الفؤاد وملاذ الروح في لحظات الوجد والشوق والحنين.
سجدت باسمك إلهي عالي الشان
يا الواحد الفرد نظره منك تِغنيني
وسجد لعزة جلالك جسمي الفاني
وخلعت عزّ الملوك ورجفت إيديني
بهذا المطلع الذي تسجد فيه الروح لجلال الله العظيم يفتتح صاحب السموّ هذه المناجاة الصافية التي يتجرد فيها الإنسان من كل مظاهر الملك، فهو يسجد لله العظيم باسم الله العليّ الشان، فهو المعبود بحقّ، وهو وحده الذي يستحقّ أنْ تُمرّغ له الجباه على تراب الذل والمسكنة، لأنّ في هذه اللحظات يكون العزّ الحقيقي للإنسان، وما عدا ذلك فهو وَهْمٌ وسَراب، وكل ما يريده العبد في هذه اللحظة الخاشعة هو نظرةُ عطف وقبول من لدن الجليل الكبير سبحانه، فإنّ في هذه النظرة الغِنى والكفايةَ بها عن جميع الخلق وعن كل الأشياء، فإذا سجدت الروح في محراب الخشوع سجد معها الجسد الفاني لعزّ الملك الجليل، خالعاً العبدُ لباسَ الملك وعزّهم، وارتجفت اليدان من هيبة الحضور في حضرة الله تعالى، تأكيداً على حقيقة العبودية وجلال الربوبية في بيت الله العتيق.
طال اشتياقي وصوت الحق ناداني
وأنا أتبع الصوت في همسٍ يناديني
لك جيت ساعي إلى مكة بوجداني
يا مالك الملك بالرحمة تلاقيني
أما الشوق والاشتياق فهو التحقق بقوله تعالى على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام: {فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم}، ولقد استجاب الله تعالى دعاءه فجعل القلوب مسكونة بالحنين إلى ربوع مكة وأنوار البيت العتيق، ولو قال الخليل (فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم) لاقتتل الناس على الذهاب إلى مكة لكنّ حرف «مِنْ» الذي يفيد التبعيض هو الذي جعل القلوب المشتاقة هي التي تحنّ إلى زيارة بيت الله تعالى، وهو ما عبر عنه صاحب السموّ بقوله (طال اشتياقي) ولا يطول الاشتياق إلا للحبيب الذي يستحق الشوق والحنين، فإذا تحرك القلب بالحنين والاشتياق تيسرت أسباب الذهاب، وانصبّت رحمة الكريم الوهاب على ذلك القلب المشتاق، فليس كل القلوب يصلح لهذه الحضرة الجليلة، ومن هنا يقول العوام والبسطاء من الناس: إنّ الحج هو نداء الله تعالى للعبد، فمن ناداه لبّى النداء، وكم من رجل عزم على الحج وتوفّرت له كل الأسباب ثم انقطع عنه بأدنى سبب وأوْهى عقبة، فالحج والعمرة رزق كريم يسوقه المولى لمن شاء من عباده، فإذا جاء النداء تحرك الوجدان، واندفع نحو الصوت كي يلبي النداء، وأنْصَتَ بسمع القلب لهذا الهمس اللطيف الذي يشتاق لهذه اللحظات المفعمة بالعبودية، وإفراد الخالق العظيم بالقصد، وهو ما عبّر عنه صاحب السموّ بقوله (لك جيت ساعي) ففي هذا التركيب «لك» مزيد اختصاص بالقصد، فهو وحده المقصود سبحانه بهذه الرحلة المباركة، التي جاءها العبد ساعياً مُشتداً في سعيه، ولقد أثنى الله تعالى على كل من سعى في رضاه، فكيف إذا كان هذا السعي يحصل بالوجدان وحضور القلب ولا يقتصر على مجرد سعي الجسد إلى المناسك العِظام، عندها ينطلق اللسان بالرجاء والدعاء أن يتلقاه الله تعالى بالرحمة والمغفرة والقبول، فهذا هو معقد الرجاء، وهذا هو الطلب المأمول من عطاء الكريم الوهاب.
وكانت مصابيح مكة نور ربّاني
كأن الملايك محيطه بالمصلّيني
وكيف لا تكون مكة المكرمة معدن النور وهي أرض الهدى والبركة بنصّ القرآن في قوله تعالى: {إنّ أوّلَ بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهُدى للعالمين * فيه آياتٌ بيّناتٌ مقام إبراهيم ومَنْ دخله كان آمنا}، وهي أحبّ أرض الله إلى الله بنصّ قوله صلى الله عليه وسلم: «والله إنك لأحبّ أرض الله إلى الله، وأحبّ أرض الله إليّ» فمن هنا تلألأت مصابيحها بالنور الذي لا ينطفئ، فهي تستمد أنوارها من نور الله تعالى، وهي المحفوفة بالملائكة التي تتنزل للسكينة، وتثبت قلوب الطائفين والعاكفين والرُّكّع السجود، وتحيط بالمصلين من كل الجهات تعبيراً عن الرضا والقبول، ومغفرة الذنوب وتطهير الأرواح والقلوب.