بقلم: عبدالله المدني
اللافت للنظر أن بلداً متقدماً علمياً ومعروفاً باختراعاته وصناعاته مثل اليابان، بل يقبع ثالثاً على مستوى العالم لجهة الصناعات الدوائية بعد الولايات المتحدة والصين (بحصة سوقية تصل إلى 7 بالمائة على مستوى العالم)، ليس في سباق مع الصينيين والروس والأمريكيين والأوروبيين والهنود من أجل التوصل إلى لقاح فعال ضد جائحة «كوفيد 19».
وبالمثل، يستغرب المراقب كيف أن بلداً مدرجاً على قائمة كبار مصنّعي الأدوية على مستوى العالم مثل الهند، التي بلغت مبيعاتها الدوائية هذا العام نحو 50 مليار دولار، وتعد أكبر مورّد للأدوية النوعية الفعالة من حيث التكلفة، ويعمل بها أكثر من 200 شركة دوائية كبيرة، وتنتج نحو 80 بالمائة من العقاقير المضادة للفيروسات الرجعية، لم تتوصل بعد إلى طرح لقاح للوباء، رغم أنها الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث عدد الوفيات والإصابات.
ففي اليابان، التي لم تسجل فيها أعداد ضخمة من الإصابات كما في دول أخرى مقارنة بعدد سكانها، تقول سلطاتها الصحية إن اللقاح الياباني قد لا يكون متاحاً قبل عام 2022.
أما في الهند التي تحتضن المعهد الأكبر عالمياً في إنتاج اللقاحات (معهد «سيروم انستيتيوت أوف إنديا» بمدينة بيون) فقد صرح مديره التنفيذي أن معهده سيكون قادراً مع بداية عام 2021 على إنتاج نحو 100 مليون جرعة شهرياً من لقاح «كوفيشلد» الذي طورته شركة «أسترازينكا» بالتعاون مع جامعة أكسفورد، لافتاً النظر إلى أن هناك حاجة لإجراء المزيد من الأبحاث على اللقاح المذكور بعد حالة الإرباك التي أثارها العلماء حول مدى فاعليته، علماً بأن شركة «أسترازينكا» كانت قد قالت إن تجاربها أثبتت فعالية اللقاح بنسبة 90 بالمائة عند إعطاء نصف جرعة أولية ثم جرعة كاملة.
الفرق بين اليابان والهند أن رئيس حكومة الثانية ناريندرا مودي يخوض سباقاً مع الزمن لحث ودعم علماء بلاده على إيجاد لقاح آمن ورخيص وفي متناول اليد وغير مشروط بتخزينه في درجات حرارة مئوية تحت الصفر كون الهند من البلاد ذات المناخ الحار، بل يقود اجتماعات ونقاشات مستمرة مع فرق من الحكومة المركزية وحكومات الولايات بشأن اللقاح وأسعاره وعمليتي تطعيمه وتوزيعه.
غير أن الصورة تبدو مختلفة في اليابان (ربما بسبب اختلاف ظروفها لجهة أعداد المصابين) التي تحاول فيها شركة محلية واحدة فقط البحث عن لقاح فعال، فما هو السبب يا ترى؟
هناك عدة عوامل تضافرت مع بعضها البعض على هذا الصعيد. فعلى حين راكمت الدول الأخرى خبرات دوائية وعلاجية في زمن السلم من منظور الأمن القومي، وبالتالي تبوأت المراكز العالمية الأولى، لم تشهد السوق الدوائية اليابانية نمواً ملحوظاً في السنوات الماضية بسبب قوانين تنظيم وتسعير الدواء المعقّدة التي سنّتها الحكومة، والتي جعلت شركات صناعة الدواء اليابانية غير متحمّسة لتقديم منتجات مبتكرة، هذا فضلاً عن كساد سوق الأدوية بصفة عامة في أعقاب إقدام الحكومة على ترويج الأدوية الجنيسة في محاولة منها لتقليل نفقات الرعاية الصحية في بلد معمّر.
ولعل من الأمور الأخرى التي لم تشجّع صناعة الدواء اليابانية على خوض سباق البحث عن لقاح لوباء «كوفيد 19» هو ثقتها في أن الأمة اليابانية أمة ملتزمة ومنضبطة وتراعي أقصى درجات النظافة في حياتها اليومية. فبمجرد انتشار الجائحة في العالم شجّعت الحكومة مواطنيها على ارتداء الكمامات لكسب الوقت.
وهذه الكمامات، التي التزم اليابانيون بارتدائها بنسبة 95 بالمائة، أثبتت فاعليتها بدليل أنه خلال الأشهر الـ 12 الماضية لم يتوفّ سوى 3000 ياباني في بلد يبلغ عدد سكانه 126 مليون نسمة (نسبة معتبرة منهم من المعمرين الأكثر قابلية للإصابة والوفاة)، علماً بأن اليابان، بسبب استراتيجيات حكومتها والتزام المواطنين بها، لم تتعرض لما تعرضت له دول أخرى وقت انتشار أوبئة سابقة مثل متلازمة الشرق الأوسط التنفسية أو وباء «سارس».
يقول الباحث الياباني المتقاعد مات إيزاوا في مقال له بصحيفة التايمز الآسيوية الصادرة في هونغ كونغ، ما مفاده أن العلماء اليابانيين مهنيون، وعادة ما يميلون إلى عدم التسرّع والاستعجال في الكشف عن إنجازاتهم، خصوصاً وأن حكومتهم اعتادت على أخذ وقتها في الموافقة على أي جديد مبتكر، وعلى مكافأة المنجز المتقن، والمكتشف الحذر أكثر من مكافأة المتسرّعين في مجال تقديم تقنيات أو اكتشافات جديدة.
وربما كان هذا عاملاً إضافياً لتباطؤ العلماء اليابانيين في دخول السباق العالمي من أجل لقاح ضد الفيروس الذي دمّر حياة البشرية واقتصاديات العالم، وأفضى إلى موت الملايين من سكان المعمورة.