أكد الشيخ شخبوط بن نهيان آل نهيان، وزير دولة، أن دولة الإمارات اعتمدت سياسة خارجيةً شفافة، قائمة على بناء شبكة علاقات متوازنة مع دول العالم، ودعم جهود إرساء الاستقرار الإقليمي والدولي.
جاء ذلك خلال إلقاء الشيخ شخبوط بن نهيان، كلمة الإمارات في الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، ولفت إلى أن هذه الجمعية لطالما احتضنت العالم وأصغت لآماله وآلامه.
وجاءت نص كلمة دولة الإمارات:
السيد الرئيس، أشكر دينيس فرانسيس على إدارته المتميزة لأعمال الدورة السابقة، وأهنئ فيليمون يانغ على ترأسه لأعمال الدورة التاسعة والسبعين، مع تمنياتنا لكم بالتوفيق والسداد.
من منبر هذه الجمعية العام التي لطالما احتضنت العالم وأصغت لآماله وآلامه، ندعوكم لنعمل سوياً، لكي نورث أبناءنا وبناتنا والأجيال المقبلة، عالماً أفضل، ينعمون فيه بالعيش الكريم والازدهار والاستقرار، موظفين لذلك كل ما نمتلكه من قدرات وأدوات سياسية ودبلوماسية واقتصادية، مسخرين له أفضل ما توصلت إليه البشرية من تقدم وعلم، من أجل الحفاظ على الحياة بكل تجلياتها وصورها.
وفي دولة الإمارات وضعنا هذه الرؤية نصب أعيننا، فأطلقنا العنان لعجلة التقدّم في ميادين التنمية والاقتصاد والتعليم والتكنولوجيا والصناعة، ومنذ قيام دولة الإمارات، اعتمدت بلادي سياسة خارجيةً شفافة، قائمة على بناء شبكة علاقات متوازنة مع دول العالم، ودعم جهود إرساء الاستقرار الإقليمي والدولي، وخفض التصعيد، والتشجيع على الحوار وبناء الجسور، وحل الأزمات بدلاً من الاكتفاء بإدارتها.
وفي ظل المنعطفات الخطيرة التي يمر بها العالم اليوم فلا بد من إعادة ضبط بوصلة العمل الدّولي نحو جملة من المبادئ الأساسية التي لا يمكن أن نحيد عنها، أهمها، توحيد الموقف تجاه جميع القضايا الشّائكة، ومساندة جميع الشعوب، بعيداً عن ازدواجية المعايير، وضمان حماية المدنيين، وإعلاء سيادة القانون، والالتزام بحقوق الإنسان، واحترام مبادئ حسن الجوار.
وتزداد أهمية العودة لهذه المبادئ، مع ما تشهده العديد من النّزاعات في منطقتنا والعالم من انتهاكات صارخة عمّقت المعاناة الإنسانية، وأعادتنا عقوداً للوراء، وتسببت في موجات لجوء ونزوح ضخمة، أثقلت كواهل الدول المعنية ودول الجوار، في ظل استمرار الحرب الدموية على قطاع غزّة، والحروب في السودان وأوكرانيا، والأزمات في اليمن وسوريا، وليبيا والساحل، وأفغانستان، وميانمار وهايتي، وغيرها.
ولا بد هنا من التذكير بأنه حتى للحروب قواعد، ويجب على أطرافها احترام القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني.
ففي غزة، يجب تحقيق وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وإدخال المساعدات بشكل عاجل وكامل ودون عوائق، وعلى نطاق واسع، وإطلاق سراح الرهائن والمحتجزين، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
ويجب توخي الحكمة في معالجة التطورات الإقليمية المتسارعة، المنذرة بالخطر في منطقتنا، ويبدو أنّ ما كنّا نحذّر منه يتطوّر الآن بشكل قد يصبح غير قابل للسيطرة، لذا، نأسف لرؤية الحرب تمتد إلى لبنان، في الوقت الذي كنّا نتطلع فيه للإعلان عن التّوصل لصفقة تنهي الحرب على غزة.
ولا يمكن القبول بتجاهل القرارات والآراء الاستشارية الصّادرة عن أعلى هيئة قضائية أممية، وهي محكمة العدل الدولية، بما في ذلك تدابيرها المؤقتة والمتّصلة بالحرب على غزة.
وندعو للحفاظ على أمن وسلامة الشعوب، وصون الاستقرار الإقليمي والدولي، بما في ذلك أمن طرق الملاحة والتجارة الدولية، وإمدادات الطاقة، خاصةً مع استمرار الجماعات الإرهابية والمتطرفة في استغلال مآسي الشعوب لتحقيق مآربها السياسية.
وفي السودان، يجب على الأطراف المتحاربة وقف القتال بشكل فوريّ ودائم، والسماح بدخول المساعدات عبر الحدود وخطوط النزاع، بشكل مستدام ودون عوائق.
ونعرب عن رفضنا التام لاستمرار الأطراف المتحاربة في استهداف المدنيين، وعرقلة إيصال المساعدات الإنسانية.
وتدين بلادي، بأشد العبارات، الاعتداء السافر، الذي شنته القوات المسلحة السودانية، على مقر سكن سفير دولة الإمارات في الخرطوم، في 29 من سبتمبر الجاري في خرق صارخ للمبدأ الأساسي، المتمثل في حرمة المباني الدبلوماسية، وللمواثيق والأعراف الدولية، وفي مقدمتها، اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، وندعو الأطراف المتحاربة للانخراط بشكل جاد في محادثات السلام.
وفي هذا الصدد، نرى أهمية البناء على المخرجات الإيجابية لاجتماعاتْ مجموعة العمل من أجل تعزيز إنقاذ الأرواح والسلام في السودان، ونشيد بالمبادرات التي تهدف للتوصل إلى حل شامل لإنهاء الأزمة، وعلينا أن نواصل جميعاً العمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين لرفع المعاناة عن الشعب السوداني الشقيق من أجل حياة أكثر أماناً وازدهاراً.
وفي أوكرانيا التي تجاوزتْ تأثيرات الحرب فيها البحار والقارات، فلا بد من إيجاد حل سلمي يضع حداً لهذا النزاع، وما رافقه من تزايد في الاستقطاب الدولي، وأزمات لجوء وأسرى، وتداعيات على الأمن الغذائي العالمي.
ومن خلال تواصلنا المستمر مع كافة الأطراف ساهمت بلادي في الإفراج عن قرابة 2000 أسير حرب عبر جهود الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، ومستمرون بالدّفع نحو الحوار وخفض التصعيد، ودعم التعافي وإعادة البناء.
وحين نتحدث عن حلّ الأزمات التي طال أمدها، فلا بد من التأكيد مجدداً على دعمنا الكامل للسيادة المغربية على منطقة الصحراء المغربية، مع تأييدنا لمبادرة الحكم الذاتي في إطار الوحدة الترابية المغربية.
السيد الرئيس.. لقد أبت بلادي التسليم، بتعطل الاستجابة الدولية في العديد من الأزمات، بفعل تصاعد الاستقطاب الدولي، والعوائق المفروضة من أطراف النزاعات، فعملنا على تذليل العقبات وتسخير الإمكانات لمواصلة العمل الإنساني، ومدّ يد العون للمحتاجين في شتّى بقاع الأرض، التزاماً بإرث الشيخْ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسّس دولة الإمارات.
واليوم، أمر صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بتقديم مساعدات إغاثية عاجلة للشعب اللبناني الشقيق، بقيمة 100 مليون دولار، لمساندتهم في مواجهة التحديات الراهنة.
وحين اشتدت ويلات الحرب في السودان لتدفع بالملايين من السكان نحو كارثة إنسانية متعددة الأبعاد، سخرت بلادي جهودها لدعم الشعب السوداني، حيث ساهمنا مؤخراً بمئة مليون دولار لتعزيز جهود الأمم المتحدة لمعالجة التداعيات الإنسانية لهذه الحرب في الداخل وفي دول الجوار، إلى جانب إنشائنا لمستشفيين ميدانيين في تشاد لتقديم الخدمات الطبّية لكل من هم بحاجة إليها، بما يشمل اللاجئين السودانيين.
وبالمثل، لم ندخر جهداً في دعم الأبرياء المحاصرين في غزة، حيث عملنا على مدهم بالمساعدات العاجلة عبْر البرّ والجوّ والبحر، وسعينا لتوفير العلاج لأشقائنا الفلسطينيين من المرضى والمصابين، عبر إنشاء مستشفى ميداني في رفحْ بغزةْ، ومستشفى عائم في العريش، مع استمرارنا في إجلاء الجرحى والمرضى وذويهم من قطاع غزة لتلقي العلاج في مستشفيات دولة الإمارات، وأغلبهم من الأطفال ومرضى السّرطان.
كما واصلنا دعمنا لوكالة الأونروا، في ضوء الدّور الحيوي الذي تقوم به في غزة، ونرحب بإطلاقها مؤخراً لبرامج تمهيدية لاستئناف خدماتها التّعليمية في القطاع، محيّين كافة الجهود التي يبذلها العاملين في المجال الإنساني، والتي تمثل الشّعاع المضيء وسط نفق الحرب المظلم.
وإن أردنا انتشال القضية الفلسطينية من هذه الحلقة المفرغة التي تدور فيها منذ سبعة عقود، فلا بد من اتخاذ خطوات ملموسة لإنشاء دولة فلسطينيّة مستقلّة، عاصمتها القدس الشّرقيّة، استناداً إلى حل الدّولتين، والنّظر في تشكيل بعثة دوليّة مؤقّتة في القطاع بدعوة رسمية من الحكومة الفلسْطينيّة، لمعالجة الكارثة الإنسانية، وإرساء دعائم الأمن وسيادة القانون، وإعادة توحيد غزة والضّفة الغربية تحت السلطة الفلسطينية بعد إصلاحها، لتكون قادرة على المضي بخطىً ثابتة نحو إيجاد حل سياسيّ شامل وعادل للقضيّة الفلسطينية.
وتؤمن بلادي بأن دولة فلسطين، التي تبوأت منذ أيام مقعدها الجديد في هذه القاعة أسوةً بسائر الأمم، قد استوفت متطلّبات العضوية الكاملة في هذه المنظّمة، تماماً كما استحقّت الاعتراف بها من قبل الجميع كدولة كاملة الأهليّة تحت الاحتلال.
السيد الرئيس.. بالتّوازي مع جهودنا في هذه الملفات، تستمر بلادي في مطالباتها لإيران بإنهاء احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، والتي تعد جزءاً لا يتجزأ من أراضي دولة الإمارات، ونستمر بحثها على الاستجابة لدعواتنا المتكررة لحل القضية عن طريق المفاوضات المباشرة أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية.
وفي سائر القضايا، ترى دولة الإمارات بأن الدبلوماسية هي خيارنا الأمثل، فلا يمكن أن نطفئ النار بالنار. وحين لا تجدي المناهج التقليدية نفْعاً من واجبنا تجديدها، لنتمكن من التّحرك في أحلك لحظات التّاريخ.
السيد الرئيس.. إن بناء مستقبل آمن ومزدهر يتطلب تحديث آليات العمل متعدد الأطراف، لتمكينها من مواكبة التحديات الجسيمة التي تحيط بنا، والاضطلاع بأدوار مهمة في حل النزاعات والأزمات، خاصةً بعدما عجزت المنظومة الدولية بشكلها الحالي عن منع أخطر الجرائم، أو المساءلة عنها.
ويستدعي ذلك في المقام الأول إصلاح مجلس الأمن، عبر جهد شامل يضم كافة أعضاء الأمم المتحدة، بما يعيد للمجلس مصداقيته، ويعينه على الوفاء بولايته في حفظ السلم والأمن الدوليين، ويمكّنه من مكافحة الإفلات من العقاب، حتى في الحالات التي يعجز فيها المجلس عن التحرّك، بفعل الاستقطاب والاعتبارات السياسية.
كما يجب إشراك الدول النامية والفقيرة في صلب الجهود الدولية، مع ضمان اضطلاع النساء والشباب بأدوارهم الطبيعية والهادفة في سائر أروقة العمل المشترك.
وفي فورة انشغالنا بالتعامل مع الواقع السائد، دعونا لا نغفل عن أهمية جهود الوقاية من الأزمات، حيث إن أخطر الحروب التي شهدها التاريخ لم تنشأ في عشية وضحاها، بل كانت امتداداً لأعوام أو عقود من التطرف وخطاب الكراهية والتعصب.
ويستدعي ذلك اتخاذ خطوات ملموسة لإعلاء قيم التسامح والتعايش السلمي، وتضافر الجهود الإقليمية والدولية لإخماد شرارة النزاعات قبل اشتعالها.
وبالإضافة لذلك، فإن العمل المشترك هو السبيل الوحيد لمواجهة المخاطر التي تهدد مستقبل البشرية والكوكب، بما في ذلك التغير المناخي، حيث أبرزت مخرجات الدورة الثامنة والعشرين من مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي التي استضافتها دولة الإمارات، ما يمكن تحقيقه إن عملنا معاً، خاصةً بعد اعتماد مئة وثمانية وتسعين دولةً ل«اتفاق الإمارات» التاريخي، الذي جسّد توافقاً دولياً لوضع مجموعة من التدابير، لتفادي ارتفاع حرارة كوكب الأرض فوق مستوى درجة ونصف مئوية وتفعيل صندوق «الخسائر والأضرار» لتعويض الدول الأكثر تضرّراً من تغيّر المناخ.
سنواصل التعاون مع الجميع لدعم العمل المناخي والطاقة المتجدّدة والنظيفة، بما في ذلك من خلال مبادرة «ترويكا رئاسات مؤتمرات الأطراف» مع أذرْبيجان والبرازيل، لتقديم استجابة ملموسة لتحقيق أهداف اتفاقات المناخ الدولية.
كما سنواصل مساعينا للحدّ من أزمة ندرة المياه وتوفير المياه النظيفة والمستدامة للجميع، وذلك عبر «مؤتمر المياه» الذي نعتزم استضافته عام 2026 بالشراكة مع السنغال، ومبادراتنا المتعدّدة في هذا المجال وأولها «مبادرة محمد بن زايدْ للْماء» التي أطْلقت هذا العام.
وبهذه الروح التّي تتطلّع دوماً إلى الأمام، تسعى بلادي لاستكشاف الفرص الكامنة في وسائل التّكنولوجيا المتقدّمة، لتكون التّكنولوجيا النّاشئة، ومنها تقنيّات الذكاء الاصطناعي، أدوات أساسيةْ لابتكار الحلول في أعمالنا وحياتنا وخدماتنا الحكوميةْ.
ونؤمن بضرورة توجيه الاهتمام الدوليّ نحو هذه الوسائلْ، والاستثمار فيها، بما يسرّع من وتيرة التنمية المستدامة، ويحْدث تحوّلات جذرية في التعامل مع التّحديات في مختلف الميادين، على نحْو يسدّ فجوات التّنمية ويدعم تقدّم الجميعْ.
السّيد الرئيس.. دعونا نغتنم هذه الفرصة لتصحيح مسار العمل الدولي المشترك، ملاذنا الجامع في الشدائد، وأن نعمل يداً بيد لصنْع مستقبل باهر تفخر به الأجيال القادمةْ.