بقلم: علي عبيد الهاملي
لا أعتقد أن أمة انخدعت بالشعارات مثلما انخدعت أمتنا العربية على مدى عقود من الزمن. ولا أعتقد أن أمة برعت في اختراع وتأليف الشعارات مثلما برعت أمتنا العربية في هذا الفن، الذي يكاد الإبداع فيه يقتصر على عدد قليل من الأمم. ولا أعتقد أن أمة بحاجة إلى تجاوز مرحلة اختراع الشعارات والانخداع بها مثلما تحتاج أمتنا العربية كي تتجاوز محنها المستعصية. ولو أننا وضعنا التاريخ القديم جانباً، وبحثنا في التاريخ الحديث للأمة العربية لوجدنا عدداً هائلاً من الشعارات التي برع العرب في تأليفها وتبنيها، لكن أيًّا منها لم يجد طريقه إلى التنفيذ، وإن وجد هذا الطريق فترة من الزمن، فإن حركة الرياح سرعان ما تغير اتجاهه ويفقد مساره، لتظهر أمامه الرمال المتحركة وتغوص أرجل حامليه والمتحمسين له في هذه الرمال لتبتلعهم ويصيروا أثراً بعد عين.
هل نحن أمة منحوسة؟ يطرح البعض السؤال. لكن النحس ليس له مكان في كتابة تاريخ الشعوب المحسوبة بالمواقف والتحركات الصحيحة، واتخاذ القرارات الصائبة في الأوقات المناسبة، وعدم إهدار الفرص عندما تسنح، لأن الفرصة التي تذهب لا تعود مرة أخرى، وإذا ما جاءت بعدها فرصة كانت أقل منها مغنماً وربحاً، والمغانم والأرباح في حسابات الأمم لا تقاس بمغانم وأرباح الشركات والدكاكين والبقالات، وإنما تقاس بمغانم وأرباح الشعوب، التي تسعى إلى أن يكون لها موقع بين البلدان التي لا تُوزَّع مواقعها وفقاً للحروف الأبجدية، ولا استناداً للأمجاد التليدة والحضارات السابقة، وإنما وفقاً للقوة التي تتمتع بها عند اقتسام المواقع وتوزيع المغانم وتطبيق المغارم.
حدث هذا عبر تاريخ البشرية الممتد، ومن لم يملك القدرة على قراءة الماضي، لن يتمكن من قراءة الحاضر، ولن يقدر على استشراف المستقبل. والبكاء على اللبن المسكوب هو وسيلة العاجزين فقط، لا وسيلة من يريد أن ينهض من كبوته ويعيد تصحيح خطوته كي يضمن لنفسه مكاناً تحت الشمس، في زمن أصبحت فيه المساحات المضيئة قليلة والبقع المظلمة شاسعة الامتداد، مخيمة على الكثير من البلاد، ليس حسب مفاهيم علم الفيزياء القائمة على الكتلة والمادة، وإنما حسب مفاهيم علم الاجتماع التي وضع أسسها عالمنا العربي ابن خلدون، والتي أخبرنا أنها ذات صلة بالاقتصاد والسياسة والإنسان والتاريخ والجغرافيا، وكل ما له علاقة بحياة البشر.
نحن أمة تحركها العواطف، وتقودها الشعارات التي يخدر بها أصحاب المصالح شعوبهم والمتضامنين معها، وهي شعارات ربما تكون نبيلة في ظاهرها، لكنها لم تعد صالحة للتطبيق في زمن تغيرت كل ملامحه ولم يعد من المنطق أن نظل منخدعين بها، ولا منخدعين لأصحابها على أمل أن تحدث أثراً، فهذه حجة استخدمها البعض مبررين مواقفهم، وقد ثبت بالتجربة أن نتائجها كانت كارثية ومخيبة للآمال، دافعة إلى المزيد من السقوط والضلال، مهدرة للكثير من الفرص التي كان يمكن لها أن تضمن حداً أدنى من المستقبل الآمن للقادم من الأجيال.
ينظر البعض إلى الغرب وما تنعم به شعوبه من رغد عيش واستقرار، ويقولون لماذا لا ننعم نحن أيضاً بما ينعمون به، وينسون أو يجهلون أن دول الغرب خاضت حروباً داخلية دامية، استمر بعضها عشرات السنين، وقامت بينها حربان عالميتان أكلتا الأخضر واليابس، انقسمت خلالها هذه الدول إلى معسكرين، وتسببت هذه الحروب في قتل ملايين البشر، حتى توصلت إلى أنها لا يمكن أن تعيش إلا إذا تعايشت مع جيرانها، وسلمت بأن لها مصالح مشتركة يجب أن تعمل على تحقيقها كي تعيش شعوبها في أمن وأمان وازدهار اقتصادي واطمئنان.
على الذين ترتفع أصواتهم زاعقة أن يعلموا أن الصراخ والعويل لن يجدي شيئاً، وأن الشتائم المقذعة التي يتم توجيهها تحت بند الدفاع عن الأقصى لن تجدي شيئاً، وأن تحرير الأقصى لن يتحقق على أيدي المتاجرين بالقضية وحلفائهم المستفيدين من رفع شعارات الدفاع عن القضية. عليهم أن يعلموا أن هذه الشعارات إنما تكشف أقنعة الحقد التي تغطي وجوههم، وأنه كلما سقط شعار سقط معه ألف قناع، وانكشفت وجوه الذين يعزفون على أوتار عواطف الشعوب لاستثارة حميتها ثم يعودون لمخابئهم، وتلك هي أكبر آفات أمتنا التي ملّت سقوط الشعارات وانكشاف الأقنعة.